هل شممت رائحة القبور.. ؟؟ .. .. أي شخص كان قد رآني متسلقاً سور المقبرة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، كان سيقول: أكيد مجنون، أو أن لديه مصيبة.. والحق: أن لديَّ مصيبة؛ كانت البداية عندما قرأت عن سفيان الثوري - رحمه الله: أنه كان لديه قبراً في منـزله يرقد فيه، وإذا ما رقد فيه نادى: (رب ارجعون .. رب ارجعون ).. .. حدث و أن فاتتني صلاة الفجر ( وهي الصلاة التي من كان يحافظ عليها ثم فاتـته فسيحس بضيق شديد طوال اليوم) .. .. تكرر معي نفس الأمر في اليوم الثاني، فقلت لابد وأن في الأمر شيء، ثم تكررت للمرة الثالثة على التوالي؛ هنا.. كان لابد من الوقوف مع النفس وقفة حازمة لتأديبها حتى لا تركن لمثل هذه الأمور فتروح بي إلى النار.. قررت أن أدخل القبر حتى أؤدبها..!!.. ولابد أن ترتدع وأن تعلم أن هذا هو منـزلها ومسكنها إلى ما يشاء الله. وكل يوم أقول في نفسي دع هذا الأمر غداً،، وجلست أسوف في هذا الأمر حتى فاتـتني صلاة الفجر مرة أخرى.. حينها قلت: كفى.. وأقسمت أن يكون الأمر هذه الليلة. ذهبت بعد منتصف الليل، حتى لا يراني أحد، وتفكرت: هل أدخل من الباب ؟ حينها سأوقظ حارس المقبرة..!!.. أو لعله غير موجود.. !!.. أم أتسور السور..؟؟.. إن أيقظته.. لعله يقول لي تعال في الغد، أو حتى يمنعني، وحينها يضيع قسمي، فقررت أن أتسور السور.. استعنت بالله وصعدت، برغم أنني دخلت هذه المقبرة كثيراً كمشيع، إلا أنني أحسست أنني أراها لأول مرة.. ورغم أنها كانت ليلة مقمرة، إلا أنني أكاد أقسم أنني ما رأيت أشد منها سواداً تلك الليلة، كانت ظلمة حالكة، سكون رهيب.. هذا هو.. صمت القبور.. بحق!!، تأملتها كثيراً من أعلى السور، واستـنشقت هوائها.. نعم إنها رائحة القبور.. أميزها عن ألف رائحة.. رائحة الحنوط.. رائحة بها طعم الموت الصافي.. وجلست أتفكر للحظات مرت كالسنين .. إييييه أيتها القبور.. !! .. ما أشد صمتك وما أشد ما تخفينه، ضحِك ونعيم، وصُراخ وعذاب أليم، ماذا سيقول لي أهلك لو حدثتهم .. ؟؟ .. لعلهم سيقولون قولة الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ). قررت أن أهبط حتى لا يراني أحد في هذه الحالة، فلو رآني أحد فإما سيقول: أنني مجنون وإما أن يقول: لديه مصيبة، وأي مصيبة بعد ضياع صلاة الفجر عدة مرات. هبطت داخل المقبرة، وأحسست حينها برجفة في القلب، والتصقت بالجدار ولا أدري لأحتمي من ماذا..؟؟.. أمشي محاذراً بين القبور، وكلما تجاوزت قبراً تساءلت أشقي أم سعيد.. ؟؟.. شقي بسبب ماذا؟ أضيّع الصلاة ؟ أم كان من أهل الغناء والطرب؟ أم كان من أهل الزنى..؟؟.. لعل من تجاوزت قبره الآن كان يظن أنه أشد أهل الأرض قوة!! وأن شبابه لن يفنى!ََ! وأنه لن يموت كمن مات قبله؟ أم أنه كان يقول: ما زال في العمر بقية..!! .. سبحان من قهر الخلق بالموت.. لقد رأيت القبر كثيراً، ولكن هذه المرة مختلفة تماماً أخيراً.. أبصرت القبور المفتوحة، أقسم أنني ما رأيت أشد منها سواداً، كيف أتتني الجرأة حتى أصل بخطواتي إلى هنا؟ بل كيف سأنزل في هذا القبر..؟؟.. وأي شئ ينتظرني في الأسفل ؟ فكرت بالاكتفاء بالوقوف و أن أصوم ثلاثة أيام تكفيراً لقسمي.. .. ولكن لا..!!.. لن أصل إلى هنا ثم أقف، يجب أن أكمل، ولكن لن أنزل إلى القبر مباشرة، بل سأجلس خارجه قليلاً حتى تأنس نفسي. ما أشد ظلمته، وما أشد ضيقه، كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة..؟؟.. كم تنازعنا في الدنيا، اغتبنا، تركنا الصلاة، آثرنا الغناء على القرآن، والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا، وقد حذّرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل..!!.. أشحت بوجهي ناحية القبور وناديتهم بصوت خافت، وكأني خفت أن يرد عليّ أحدهم: يا أهل القبور ، مالكم ؟ أين أصواتكم ؟ أين أبناؤكم عنكم اليوم ؟ أين أموالكم؟ أين وأين؟ كيف هو الحساب ؟ أخبروني عن ضمة القبر، أتكسر الأضلاع ؟ أخبروني عن منكر و نكير، أخبروني عن حالكم مع الدود..!!.. سبحان الله، نستاء إذا قدم لنا أهلنا طعام بارد أو لا يوافق شهيتنا، واليوم.. نحن الطعام، لابد من النزول إلى القبر. قمت وتوكلت على الله، ونزلت برجلي اليمين، ووضعت رأسي وأنا أفكر، ماذا لو انهال عليَّ التراب فجأة ؟ ماذا لو ضُم القبر عليَّ مرة واحدة..؟؟.. نمت على ظهري وأغلقت عينيَّ حتى تهدأ ضربات قلبي، حتى تخف هذه الرجفة التي في الجسد، ما أشده من موقف وأنا حي . فكيف سيكون عند الموت..؟؟.. .. تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتضر (لا إله إلا الله.. إن للموت سكرات ) تخيلت جسدي عند نزول الموت يرتجف بقوة وأنا أرفع يدي محاولاً إرجاع روحي. وتخيلت صراخ أهلي عالياً من حولي: أين الطبيب؟ أين الطبيب..؟؟.. ( فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين ).. فإلى تلك النفسُ الأمارة بالسوء.. اذهبي واستنشقي رائحة القبور..!!..