أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة
الكتاب الذي لم يكتب
قرر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدف الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة عن محورها الاَصلي، والحيلولة دون ظهور الاختلاف و الافتراق، أن يعزز مكانة علي (عليه السلام) ويدعم إمارته وخلافته، و أهل بيته، بإثبات ذلك في وثيقة خالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.
ففي خلال زيارة بعض الصحابة له أثناء مرضه قال: «إئتوني بدواة وصحيفة، أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده». فبادر عمر قائلاً: إنّ رسول اللّه قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب اللّه.(1) فكثر اللغَط والنقاش حول إحضار ما طلبه النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أو عدمه، ممّا أغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع»، وقال ابن عباس: الرزية كلّالرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه.(2)
وقد نَقل هذه الواقعة فريقٌ كبيرٌ من محدّثي الشيعة والسنة وموَرخيهم، وتُعتَبر من الروايات الصحيحة. وإذا سأل أحد عن عدم إصرار النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» على كتابة ذلك الكتاب، فذلك لاَنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أصرّ على موقفه، لاَصرّ هوَلاء في الاِساءة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصة أنّهم قالوا عنه، أنّه غلبه الوَجَع أو هجر، ثمّ قيامهم بعد ذلك بإشاعة الاَمر بين الناس.
وقد روى ابن حجر العسقلاني، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لاَصحابه وقد امتلاَت بهم الحجرة وهو في مرضه: «أيّها الناس يوشك أن أُقبضَ سريعاً فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القولَ معذرةً إليكم، إلاّ أنّي مخلفٌ فيكم كتابَاللّه ربّي عزّوجلّ وعترتي أهل بيتي».
ثمّ أخذ بيد علي (عليه السلام) وقال :«هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، خليفتان نصيران لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ماذا خلفت فيهما».(1)
ومن الواضح أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفت الاَنظار إلى حديث الثقلين مرّة أُخرى، برغم ما ذكره في مواضع متعدّدة، حتّى يوَكد أهمية الثَّقلين، وتدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفّق لكتابته.
وفي هذه اللحظات، طلب بعضاً من الدنانير كان قد وضعها عند إحدى زوجاته، وأمر علياً (عليه السلام) ليتصدّق بها.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد سُقي دواءً خطأً في علاجه،فقد تخيلت «أسماء بنت عميس» أنّ مرضَه ـ ذات الجنب ـ تعلمت علاجه من عقار مركب من نبات وأعشاب من الحبشة، إلاّ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عَلِمَ بالدواء، ذكر بأنّ مرضه ليس ذات الجنب.
اللحظات الاَخيرة
في هذه الفترة الحرجة، كانت السيدة الزهراء(عليها السلام) تلازم فراش والدها (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تفارقه لحظة، وفجأة طلب منها أن تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فراح يكلّمها بصوت خفيفٍ لم يُعرَف،ولكن الزهراء(عليها السلام) بكت بشدّة، إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إليها مرّة أُخرى فحدّثها بشيء آخر، فرحت به وتبسمت مستبشرة. ولم تكشف عن ذلك إلاّ بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء على إصرار عائشة: «أخبرني رسول اللّه ص أنّه قد حضر أجلُه وأنّه يُقبَض في وجعه، فبكيت، ثمّ أخبرني أنّي أوّل أهله لحوقاً به فضحكت».(1)
وفي آخر لحظة من حياته الشريفة طلبَ الاِمام عليّاً (عليه السلام) قائلاً: «أُدعوا لي أخي». فعرف الجميع بأنَّه يريد عليّاً (عليه السلام) فدعَوا له عليّاً، فقال له: «أُدن منّي فدنا منه، فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه».
وسأل رجل ابن عباس: هل توفّي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حِجر أحد؟ قال: توفّي وهو مستند إلى صدر علىٍّ،وهو الذي غسَّله وأخي الفضلُ بن عباس.
وقيل إنّ آخر جملة نطق بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي:«لا، إلى الرفيق الاَعلى». فكأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصح من مرضه أو يلبّي دعوة ربّه، فاختار اللحاق بربّه.
وسأل كعب الاَحبار عن آخر كلمة قالها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الاِمام علي (عليه السلام) : أنّه قال: الصلاة الصلاة.
وقد ترك الدنيا (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاِثنين 28 صفر، فَسُجّي ببرد يماني، ووُضع في حجرته بعض الوقت، وارتفعت صرخات العيال، وعلا بكاء الاَقارب، وانتشر نبأ وفاته في كلّأنحاء المدينة التي تحولت إلى مأتم كبير.
وقام الاِمام علي (عليه السلام) بغسل جسده الشريف وكفّنه، إذ أنّه كان قد ذكر: «يغسّلني أقربُ الناس إليّ». وصلّى عليه مع المسلمين، وتقرر دفنُه في حجرته المباركة. وحفر قبره أبو عبيدة بن الجراح وزيد بن سهل، ودفنه الاِمام علي (عليه السلام) يساعده الفضل بن العباس.
و لمّا فرغ الاِمام (عليه السلام) من غسله (صلى الله عليه وآله وسلم) كشف الاِزار عن وجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال والدموع تنهمر من عينيه: بأبي أنت و أُمّي، طبتَحيّاً وطبتَميّتاً، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة والاَنباء. ولولا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع، لاَنفدنا عليك ماءَ الشوَون، ولكان الداءُ مماطلاً، والكمَدُ محالِفاً وقلاّ لك، ولكنّه ما لا يُملَك ردّه ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت و أُمّي أُذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك».(1)
وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية، وأعظم رسولٍإلهيٍ فتح أمام الاِنسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية.
ومن هنا فإنّنا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، والحمد للّه ربّالعالمين.(2)
ان شاء الله تكونوا قد استفدتم من سيرة خير خلق الله محمد صلى الله عليه و سلم و المتكونة من 17 جزءا و شكرا...اخوكم في الله رضا مرزوق...