أحداث السنة السادسة من الهجرة
اليهود
كان لابدّ من القضاء على خطر اليهود، إذا أراد المسلمون حياة الاستقرار والاَمن، حتى لا تتكرر قضية الاَحزاب مرّة أُخرى، فأرسل النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» مجموعة من شجعان الخزرج لتصفية هذا العنصر الحاقد، وكان على رأسهم: سلام بن أبي الحقيق، الذي عاش في خيبر، فخرجوا حتى وصلوا خيبر فدخلوها ليلاً، فدخلوا على المفسد وقتلوه، إذ طالما أزعج المسلمين بفتنه وموَامراته، وعادوا إلى المدينة سالمين.
قبيلة بني لحيان
قرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه السنة تخويف هذه القبيلة، التي اعتدت من قبل على عدد من دعاة المسلمين غدراً ودون رحمة، فقام بسلسلة من المناورات العسكرية واستعراض لقواته القتالية، ليرهب أعداء اللّه الآخرين أيضاً و قريش خاصة فيذعرهم حيث كان الرسول ص وأصحابه قد نزلوا عسفان على مقربة من مكة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رأيه، أنّه : «لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكّة أنّا قد جئنا مكة». كما ذكر جابر بن عبد اللّه الاَنصاري أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عند رجوعه إلى المدينة: «أعوذ باللّه من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الاَهل والمال».(1)
بنو غطفان
في 3 من شهر ربيع الاَوّل، اعتدى جماعة من بني غطفان على إبل لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في منطقة الغابة ـ وهي قريبة من المدينة من ناحية الشام ـ و قتلوا رجلاً وأخذوا امرأة، فطاردهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاتلهم في ذي قرد، واستعاد منهم المرأة وعدداً من الاِبل .
غزوة بني المصطلق
وهم من قبائل خزاعة المتحالفة مع قريش. قرر زعيمها «الحارث بن أبي ضرار» أن يغزو المدينة، فأعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّته للقضاء عليهم، فخرج عندما علم من رجال مخابراته بنواياهم، فلقيهم عند ماء «المريُسيع» وقاتلهم فتفرقوا، وغنم المسلمون منهم كثيراً كما سبوا عدداً كبيراً من نسائهم.
وبعد المعركة، حدث أن تقاتل اثنان من المهاجرين والاَنصار على الماء، حتى كادت أن تقع حرب بين الطرفين، لولا حكمة الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» الذي تمكن من إخماد الفتنة في مهدها، وتجنيب المسلمين أخطارها. إلاّأنّ عبد اللّه بن أُبيّ رئيس المنافقين استغل الموقف فأثار الاَنصار ضدّ المهاجرين، على أساس أنّهم أقلّ مكانة منهم، ممّا تركت كلماته أثرها في نفوسهم، إذ أنّهم ما زالوا يعانون من بقايا العصبية الجاهلية. وكادت الحركة أن توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاِسلامية والاِخوة الاِيمانية، ولكن زيد بن الاَرقم ظهر من بين فتيان المسلمين ليرد عليه بالكلمات القوية: «أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمّد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، واللّه لا أحبك بعد هذا أبداً». ثمّ سار إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بما حدث من المنافق، فأراد الرسول أن يهدّىَ الاَوضاع، فأمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن يرتحل فيها عادة، كما أنّه سار ليلاً ونهاراً دون إستراحة إلاّللصلاة، وذلك حتى يشغلهم عن الذي حدث من عبد اللّه بن أُبيّ المنافق.
وقد طلب ابنه عبد اللّه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمح له بقتل أبيه، حيث كان مسلماً حقيقياً أفضل من أبيه، ولكن الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» قال: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».
فما كان من المسلمين إلاّ أن توجّهوا باللوم على ابن أُبيّ، فلحقه من ذلك ذلّشديد بين الناس ، فلم يعبأ به أحد، ولم يعد له أيّدور، وعاش بقية حياته محتقراً بين الناس.
وقد تزوّج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «الجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار» التي كانت من بين سباياهم، فأسلمت وأسلم أهلها، ثمّ أطلق الباقون وهم مائة عائلة من بني المصطلق، إذ اعتبروا من أصهار النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ،وأطلق جميع أسرى بني المصطلق رجالاً ونساء بفضل هذا الزواج المبارك، وبفضل سياسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكيمة.
وفي هذه السنة خرج جماعة من قريش تنشد اللجوء إلى الحبشة خوفاً من قوة المسلمين، وكان فيهم عمرو بن العاص، الذي قدم الهدايا الكثيرة إلى الملك، الذي نصحه بأن يعلن إسلامه، إذ لا مفر من انتشار الاِسلام في بلاده، فاضطر إلى أن يسلم على يديه، وكتم أمره عن أصحابه.(1)
قصة الاِفك
يرى أكثر المحدّثين المفسرين أنّالقصة ترتبط بالسيدة عائشة زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويذكرون أحداثاً لا يتلاءم بعضها مع عصمة الرسول الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذا لا يمكن القبول بها (2) بينما يذهب آخرون إلى المعني فيها هو مارية القبطية زوجة رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» وأُمّ إبراهيم.
ففي رواية البخاري التي نقلها عن السيدة عائشة، ما يتنافى بقوة مع عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ،لاَنّها تكشف عن أنّه وقع «صلى الله عليه وآله وسلم» فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنّه غيّر سلوكه تجاه السيّدة عائشة، بعد أن شكّ في عفافها وشاور أصحابه في أمرها.(3) إنّمثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد أي دليل على تهمته، لا يتنافى فقط مع مقام العصمة النبوية، بل حتى مع مقام الموَمن العادي. كما أنّ الآية 12 و14 من سورة النور توبخ أُولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات و ظنوا السوء، ممّا يعني أنّهذا العتاب والتوبيخ كان يعم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً لو صحت رواية البخاري هذه. ولذا فإنّه يُرفض كلّالرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتناقض مع عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأمّا بالنسبة لرواية البخاري الاَُخرى بشأن النزول، والتي ينقلها عن عائشة ومفادها: أنّه حدث شجار وصدام بين الاَوس والخزرج أمام الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» حينما كان يخطب على المنبر، فاتّهموا بعضهم بعضاً بسبب قضية الاِفك، حتى أشار عليهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسكوت فهدّأهم حتى انصرفوا، فهي كذلك لا تتناسب مع أحداث التاريخ الصحيح، إذ أنّ «سعد بن معاذ» رئيس الاَوس كان قد توفّي قبل حادثة الاِفك، التي جرت وقائعها بعد أحداث معركة بني قريظة، وقد صرح بذلك البخاري نفسه في صحيحه(1) في باب معركة الاَحزاب وبني قريظة، فكيف يمكن أن يحضر مجلس النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ويجادل سعد بن عبادة في قضية الاِفك التي وقعت بعد أحداث بني قريظة بعدّة شهور؟
ولذا فمن المهم أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس بإلقاء التهمة والبهتان إلى إمرأة صالحة ذات مكانة وأهمية في المجتمع الاِسلامي. وقد فسر قوله تعالى: (الذي تولّى كبره) بأنّ الذي تحمل القسط الاَكبر من هذه العملية الخبيثة هو: «عبد اللّه بن أُبي» فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة الخطرة، كما صرحت بذلك السيدة عائشة نفسها.(2) فقد كان «عبد اللّه بن أُبي» يعمل بتجارة الجواري ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن، فيجني أرباحاً طائلة من وراء هذه التجارة البغيضة، حتى بعد انتشار الاِسلام في المدينة. ولما كان يكرههن على البغاء، واشتكت إحدى نسائه من ذلك، فقد نزلت الآية الكريمة تشجب عمله الدنيء: (وَلا تُكرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلى البِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدُّنيا) (1) وعندما حدث العداء بينه وبين ابنه بعد واقعة بني المصطلق، عمد إلى فعل كلّ ما يشفي غليله ويذهب غيظه، كترويج الشائعات الكاذبة انتقاماً من المجتمع الاِسلامي، ليعمل على بلبلة الرأي العام ويشغله بالتوافه من القضايا، ويصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية، إذ أنّ سلاح الشائعات يعتبر من الاَسلحة المدمرة،وتستخدم في تشويه سمعة الاَفراد الصالحين والمجتمع أيضاً.
أمّا الرواية الاَُخرى، فترى أنّ المقصود من الآية مارية القبطية، حيث اتهم فردٌ يدعى جريح بعد وفاة ابنها إبراهيم بأنّه هو والد إبراهيم وليس النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» فأرسل ص الاِمام علياً ليقتله، فصعد جريح إلى نخلة خوفاً من علي (عليه السلام) وفتكه به، فتعقّبه عليُّ، فرمى بنفسه من فوقها فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء، فرجع علي (عليه السلام) إلى النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» فأخبره بما رأى، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : الحمد للّه الذي صرف عنّا السوء أهل البيت .(2) وجميع هذه الروايات ضعيفة فلا يمكن القبول بها في شأن نزول آيات الاِفك.
الحديبية: رحلة دينية سياسية
كانت السنة 6 هـ تقترب من نهايتها حينما رأى الرسولفي المنام أنّه دخل الكعبة وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت. فقص ص روَياه على أصحابه، وتفاءل بها خيراً.(3)
إنّ هذه الرحلة الروحانية انتجت مصالح اجتماعية وسياسية، عزّزت مكانة المسلمين في الجزيرة العربية وساعدت على نشر الدين الاِسلامي فيها، وذلك لاَنّ:
ـ القبائل العربية المشركة تصورت أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالف كلّ عقائد العرب وتقاليدهم الموروثة بما فيها الحج والعمرة، فأكد بذلك الصلح وتجنّب القتال في الشهر الحرام أنّه لا يعارض تلك الطقوس الدينية، بل يعتبرها فريضة مقدسة مثل والد العرب الاَكبر «إسماعيل بن إبراهيم» ويعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، ممّا قلل من مخاوفهم تجاه الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» ودعوته.
ـ و لما لم يكن يحمل أسلحة معه على أساس حرمة الاَشهر الحرم، فإنّ ذلك غيّر من نظرة هوَلاء تجاه دعوة الاِسلام حين شاهدوا الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» وهو يحرّم القتال في الشهر الحرام،ويدعو إلى رعاية هذه السنّة الدينية القديمة.
ـ وستكون مناسبة يتمكن المهاجرون فيها من زيارة وطنهم وأهاليهم وأقربائهم. أمّا إذا منعتهم قريش من الدخول فإنّ سمعتها هي تتعرض للخطر، ويتضح عدوانُها، وينكشف للجميع بطلان مواقفها، نظراً لموقفها السّيىَ تجاه جماعة مسالمة أرادت أداء مراسم العمرة فقط.
ـ و إذا نجح المسلمون في سعيهم بأداء مناسك العمرة، فإنّه سيكون أفضل إعلام لجميع مناطق العرب، إذ أنّنداء الاِسلام سينتشر في تلك البقاع والمناطق التي لم يصلها دعاة النبي ص ومبلغوه حتى هذا الوقت.
ـ و لذا فإنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أصحابه بالتهيّوَ للعمرة داعياً القبائل المجاورة التي لم تزل على كفرها وشركها إلى مرافقة المسلمين في هذه الرحلة وبلغت أعدادهم ألف وأربعمائة أو 1600 أو 1800، أحرموا في ذي الحليفة فشاع في الجزيرة العربية أنّ المسلمين متجهون صوب مكة للعمرة في شهر ذي القعدة.
وعند عُسفان، أخبروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّقريشاً ترفض السماح لهم بالدخول إلى مكّة، كما أرسلت كتيبة من أفرادهم بقيادة: خالد بن الوليد، لتنفيذ الاَوامر المعلنة، فغيّر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقه حتى لا يلتقي بخالد،سالكاً طرقاً وعرة حتى وصل الحديبية، التي بركت فيها ناقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلوا في ذلك المكان، إلاّأنّ خالد بن الوليد تمكن من الوصول بكتيبته وحاط بهم وحاصر موكبهم. ولكن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» لم يكن قد جاء ليحارب في سبيل دخول مكة، ولم يكن هذا هدفه، ولذا فإنّ التفاوض كان من أفضل الحلول لهذه المشكلة، فقال «صلى الله عليه وآله وسلم» : «لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّأعطيتهم إيّاها». فبلغ ذلك مسامع الجميع، فقرروا إرسال عدد من أفرادهم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للتعرف على هدفه الاَصلي من رحلته ومجيئه إلى مكة، فبعثوا إليه بأربعةأشخاص لتفهّم موقف الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» فقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّا لم نجىَ لقتال أحد ولكنّا جئنا معتمرين».
إلاّأنّ المندوبين أكدوا للمسلمين أنّ قريشاً لن تقبل بدخولهم مكة: «يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً». فذهبت كلّتلك المفاوضات سدى دون جدوى، ممّا جعل الرسول ص يرسل مندوباً عنه إلى قريش يوضح الصورة الصحيحة لهدفهم،وهو زيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة، إلاّأنّقريشاً ـ خلافاً لكلّالاَعراف الدولية والاجتماعية ـ والتي تقضي بحماية السفراء واحترامهم، عمدت إلى عقر الجمل الذي قدم عليه السفير والمندوب النبوي، بل كادوا أن يقتلوه أيضاً، لولا تدخل جماعة من قادة العرب، فخلّت سبيله ليعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . كما أنّقريشاً أرسلت كتيبةلاِرهاب الرسولوجماعته وإرعابهم ونهب شيء من أموالهم، إلاّ أنّ الوضع لم يكن في صالحهم فقد أسرهم المسلمون وكانوا خمسين فرداً، فتدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفا عنهم و خلّى سبيلهم، ليوَكد لهم أنّه جاء يريد السلام، وأنّ هوَلاء ينشدون الحرب والقتال.
واختار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «عمر بن الخطاب» لمهمة سفارة أُخرى لقريش، لاَنّه لم يكن قد أراق دم أيّمن المشركين حتى ذلك الوقت، ولكنّه اعتذر عن تحمّل هذه المسوَولية المحفوفة بالمخاطر قائلاً: «يا رسول اللّه، إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي من يمنعني،ولكنّي أدلّك على رجل أعزّ بها منّي عثمان بن عفان».(1) إلاّ أنّ قريشاً ألقت القبض على عثمان وحبسوه،لعلّهم يتوصلون إلى حلّ فيطلقوه ليبلغ الرسولرأيهم. فلمّا أبطأ عثمان عنهم، وأوجد ذلك قلقاً شديداً في نفوس المسلمين، وخاصة إنّه أُشيع أنّ عثمان قتل، فإنّالمسلمين ثاروا وقرروا الانتقام والقتال، ممّا دعا النبيإلى أن يجدّد بيعته مع المسلمين، فبايعوه تحت الشجرة على الاستقامة والثبات والوفاء، وحلفوا ألاّ يتخلّوا عنه أبداً، وأن يدافعوا عن حياض الاِسلام حتى النفس الاَخير، وسميت هذه البيعة: بيعة الرضوان، التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُوَمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرة فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَريباً) .(2) وبذا فإنّ موقف المسلمين تحدّد في: إمّا دخول مكة وزيارة بيت اللّه، وإمّا القتال فيما لو تصلب موقف قريش الرافض لذلك. ولكن «عثمان بن عفان» رجع إليهم وأخبرهم أنّاليمين التي التزمت بها قريش بمنعهم من دخول مكة هذا العام، هي التي تجعلهم في موقف متصلب رافض، وأنّهم سيرسلون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من يتفاوض معه في هذا الشأن. وكُلّف سهيل بن عمرو بإنهاء هذه المشكلة. ونتج عن التفاوض بين الطرفين عقد صلح شامل و واسع بينهما.
وفي الوقت الذي كان المندوب القرشي يتصلب في بعض البنود و المواد، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتساهل معه ويتنازل عنها، ممّا كان له أثر بعيد، فالتسامح الذي أبداه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تنظيم وثيقة الصلح، لا يعرف له نظير في تاريخ العالم، لاَنّه أظهر بجلاء أنّ رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» لم يقع فريسة بيد الاَهواء والاَغراض الشخصية والعواطف والاَحاسيس العابرة، فكان يعلم أنّ الحقائق لا تتبدل ولا تتغير بالكتابة والمحو،وهو ما جعله يتسامح مع مفاوض قريش الذي تصلب في مطالبه غير الشرعية، وذلك حفاظاً على أصل الصلح وحرصاً على السلام. وقد حدث خلال ذلك، أنّ طلب المندوب القرشي بأن يمسح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كتبه: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» ويكتب بدلاً منه: باسمك اللّهمّ. كما طلب مسح كلمة «رسول اللّه» وإبدالها بمحمد بن عبد اللّه. فأجابه الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» إلى ذلك.
أمّا صلح الحديبية، فكان من أبرز بنوده:
1. وقف القتال عشر سنين بين الطرفين.
2. من قدم إلى النبي من قريش دون إذن وليّه، يردّه عليهم، ومن جاء قريشاً من محمّد لا يردّوه إليه.
3. السماح بدخول أيّ طرف في التحالف مع أيّة أطراف.
4. يرجع المسلمون هذا العام على أن يقدموا العام القادم للعمرة.
5.لا يُستكره أحدٌ على ترك دينه، ويعبد المسلمون اللّه بمكة بحرية وأمان.
6. احترام الطرفين لاَموالهم، فلا خيانة ولا سرقة.
7. لا تعين قريشٌ على محمّد وأصحابه أحداً، سواء بسلاح أو أفراد.(1)
ثمّ كتبت الوثيقة بنسختين،ووقع عليها نفر من شخصيات قريش والمسلمين شهوداً عليها، وتسلم سهيل بن عمرو نسخة قريش، واحتفظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسخة الاَُخرى.
وكثيراً ما اعترض المسلمون على بعض البنود، كالبند القاضي بتسليم كلّ مسلم سار إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قريش، والعكس، فأوضحه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
«من جاءهم منّا فأبعده اللّه، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم اللّه الاِسلام من قلبه جعل له مخرجاً». فلا قيمة لاِسلام وإيمان من يترك المسلمين ويهرب لاجئاً عند المشركين، إذ أنّه يوَكد بفعله أنّه لم يوَمن حقّاً بالاِسلام، ولذا لم يكن هناك حاجة لقبوله في جماعتهم.
وهذا الميثاق يوَكد نزاهة الاِسلام وروحه وحقيقة تعاليمه،وأنّه لم يُطلَب نشره بقوة وإجبار، كما يذكره الاَجانب وغيرهم دوماً.
وبعد الانتهاء من تلك المراسيم وعودة جماعة قريش، قام الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» بنحر ما كان معه من الهدي في نفس ذلك المكان وحلق، وأدّى الآخرون نفس العملية، ثمّ عادوا إلى المدينة بعد 19 يوماً من البقاء في أرض الحديبية.
وكان لهذه المعاهدة نتائج وآثار بعيدة المدى، كان من أبرزها وأهمها:
1. تهيّأت الاَرضية لنشر الاِسلام في المناطق المختلفة، بعد استقرار الاَمن والسلام بين المسلمين وقريش، فقد كان يقضي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر وقته في العمل على إفشال الموَامرات والدفاع عن المدينة والدخول في حروب.
2 . كان لاعتراف قريش بالكيان الاِسلامي رسمياً، دوره في منح القبائل حريتها في الانضمام إلى المسلمين إذا شاءوا.
3. زال الستار الحديدي الذي ضربه المشركون حول المسلمين في المدينة، فتمكن الناس من الارتحال إلى المدينة والتعرف عليها وعلى تعاليم الاِسلام العليا، ممّا فسح المجال لهم في اعتناق الاِسلام كما تمكن المسلمون من السفر إلى مكة وأجزاء أُخرى، ممّا ساعد في نشر الاِسلام في تلك الجهات.
4. التحق عددٌ كبير من روَوس الشرك والكفر كـ«خالد بن الوليد و عمرو ابن العاص» بالمسلمين واعتنقوا الاِسلام قبل فتح مكة.
5. زال الحاجزُ النفسي بين قريش و المسلمين، حين أثبت الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» لهم بأنّه معدن عظيم من معادن الخلق الاِنساني الكريم، بعد صبره وتجلده وتحمّله تصلّب قادة المشركين وتعنّتهم. فقد شاهدوا موقف النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخالفته لآراء المعرضين من جماعته لبعض البنود عند توقيع العقد، وذلك في رغبة صادقة منه لاِقرار السلام بين الجانبين،فأبطل بذلك كلّالدعايات والاِشاعات المغرضة التي رُوِّجت ضدّه و ضدّ دعوته المباركة، وأثبت أنّه حقّاً رجل سلام وداعية خير للبشرية، حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية، فإنّه سيعامل أعداءه باللطف والحسنى والتسامح.