بيعة العقبة
سكنت يثرب قبيلتا الاَوس والخزرج في القرن الرابع الميلادي يعد هجرتهم من اليمن، وهم من القحطانيين . كما سكن بجانبهم اليهود القادمين من شمال الجزيرة العربية. وكثيراً ما كان يحضر منهم جماعة إلى مكّة، فكان النبييلتقي بهم ويتصل معهم عارضاً عليهم دينه، وقد كان لهذه اللقاءات والاتّصالات أثرها فيما بعد ودافعاً لهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يثرب، فقد كان حجاجهم ينقلون أخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهاليهم، ممّا مكنهم التعرف عليه وعلى أهدافه. وقد تمّت تلك الاتّصالات فيما بين سنوات 11، 12، 13 من البعثة.
ومن أشهر من تشرّف بمقابلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «سويد بن الصامت» الذي أسلم ونشر الاِسلام بين قومه، إلاّ أنّ الخزرج قتلته قبل يوم بعاث.(1) و «إياس بن معاذ» الذي رأى في إسلام أهله تخلّصاً من النزاع والتناحر بينهم، ليصبحوا بفضل الدين الجديد إخوة تزول بينهم أسباب العداء والقتال.
وكذلك تمّت مبايعة ستة أفراد من الخزرج والاِيمان به وبالاِسلام:إنّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ مثل ما بينهم، فعسى أن يجمعهم اللّه بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك،ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه عليه، فلا رجل أعزّمنك.(1)
وكان لهوَلاء تأثيرهم الاِيجابي في أهل يثرب، حيث أسلم عددٌ منهم، وقدم في السنة التالية 12 من البعثة، اثنا عشر رجلاً منهم، عقدوا مع النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» بيعة العقبة، وهي أوّل بيعة في الاِسلام، وكان أبرزهم: أسعد بن زرارة، وعبادة الصامت.
وكان نصّ البيعة، بعد الاعتراف بالاِسلام والاِيمان باللّه وبرسوله: «بايعنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ألاّ نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق ولا نزني،ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف» ويرد عليهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّوجلّ، إن شاء عذّب وإن شاء غفر».
وطلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل إليهم من يعلّمهم القرآن والدين، إذ أنّهم نشطوا في نشر الاِسلام بعد عودتهم إلى يثرب، فبعث إليهم: «مصعب بن عمير» الداعية النشط الذي تمكن من أن يجمع المسلمين في غياب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويوَمهم ويصلّي بهم.(2)
وهكذا فقد أحدث تقدُّم الاِسلام في يثرب، هيجاناً كبيراً، وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها، فانتظروا حلول موسم الحجّ للاِلتقاء بالرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» ، فخرجت قافلة كبيرة منهم ضمت 500 نفر، فيهم 73 مسلماً بينهم امرأتان، فالتقوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي واعدهم بالعقبة:«موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق»، وهي الليلة 13 من شهر ذي الحجّة، فاجتمع بهم مع عمّه «العباس بن عبد المطلب» بعد أن مضى ثلث الليل ونام الناس، حتى لا يشعروا بخروجهم.
فتكلّم فيهم العباس قائلاً: إنّمحمّداً منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عزّمن قومه ومنعة في بلده، وإنّه قد أبى إلاّ الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنّه في عزّومنعة من قومه وبلده.
ثمّتكلّم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الاِسلام ثمّ قال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم». فبايعوه على ذلك و هم في حماس وسرور عظيم.
كما أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم على أن يبقى معهم، ويكون بجانبهم في سلمهم وحربهم: «أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» ثمّ قال لهم: «أخرجوا إليّمنكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم». فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، فقالص: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم، وأنا كفيل على قومي ـ أي المسلمين ـ فأُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون نساءكم وأولادكم». فقالوا: نعم. فبايعوه على ذلك».
وكان النقباء ، 9 من الخزرج و3 من الاَوس، وقد انفضّ الجمع بعد ذلك، بعد أن وعدهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهاجر إليهم في الوقت المناسب.(1)
أمّا بخصوص قبول أهل يثرب الدين الاِسلامي أسرعَ من أهل مكّة الذين رفضوه خلال ثلاثة عشر عاماً، فإنّ هناك عاملين هامين كان لهما التأثير المباشر القويّ في ذلك:
1. وجود اليهود بالمدينة، وقيامهم بنشر الاَخبار عن ظهور نبي جديد ودين جديد، ممّا هيّأ أهلها لقبول هذا الدين الذي كانوا ينتظرونه، الاَمر الذي جعلهم أسرع في تقبلهم للدعوة خلال البيعة الاَُولى، حين قال بعضهم لبعض: واللّه إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه.
2. كما أنّالحروب الطويلة التي جرت بين أطراف أهل يثرب، والتي استمرت مائة وعشرين عاماً، قد أنهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رمقهم، فملّوا الحياة، وفقدوا كلّأمل في تحسن الاَحوال والاَوضاع، فبحثوا عن مخلّص لما هم فيه من حالة سيئة ومشكلات مزمنة. ولهذا تمنّوا أن يضع النبي ص حداً لاَوضاعهم المتردية فقالوا: «عسى أن يجمعهم اللّه بك، فإن جمعهم اللّه بك فلا رجل أعزّ منك».
وقد أحدث كلّذلك خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين، إذ أنّ ذلك يعني أنّالمسلمين وجدوا قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية، تجمع كلّ طاقات المسلمين المبعثرة، و تعمل معاً في نشر دينهم وعقيدتهم، ممّا سيشكل خطراًجديداً يهدّدهم في الصميم،ولهذا بادَرتْ قريشٌ في الاتّصال بالخزرجيّين للاستفسار عمّا حدث في العقبة. فحلف لهم المشركون من أهل يثرب أنّه لم يحدث ما يوَذيهم أو يهدد مصالحهم،ولم يعلموا عنه، وهم في قولهم صادقون، إذ أنّهم لم يعلموا بما حدث في العقبة.
وحاولوا إلقاء القبض عليهم قبل خروجهم من مكّة، إلاّ أنّهم كانوا قد توجهوا قبل ذلك نحو المدينة، فظفروا بـ «سعد بن عبادة» الذي تولّوا ضربه بعد ربط يديه إلى عنقه، حتى خلّصه منهم: «المطعمُ بن عدي».(1)
وفي المدينة المنورة، كان قد أسلم فيها كلُّ قبيلة «بني عبد الاَشهل» قبل أن يروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصبحوا من الدعاة إلى الاِسلام والمدافِعين عن عقيدة التوحيد، بفضل نشاط الدعاة: مصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة، اللّذين أثّرا في إسلام قادة القبيلة: أُسيد بن حضير وسعد بن معاذ، ثمّ إسلام الباقي.(2)
وعندما اشتدّإيذاء قريش للمسلمين بعد إسلام جماعة من أهل يثرب، طلب بعضُهم النجاة بنفسه والهجرة إلى أيّمكان، فاستمهلهم الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» وقال: «لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها».(3)
وبذا فقد ترك المسلمون مكّة وهاجروا إلى المدينة تدريجياً، حتّى لا تعلم بهم قريش، إلاّ أنّ زعماءها فطنوا لسرهم، فمنعوا السفر والتنقل لاَيّ مسلم، وإعادة كلّ من وجدوه أثناء الطريق، وحبس زوجة كلّ مسلم أراد الهجرة. ولكن لحسن الحظ، لم يثمر كلّ ذلك، فإنّ معظم المسلمين تمكّنوا من الفرار والهجرة إلى يثرب، ما عدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاِمام علي (عليه السلام) و أبو بكر، وعدد قليل من المسجونين والمرضى من المسلمين. حتى حان الوقت الذي أقرّ فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الهجرة من مكة في شهر ربيع الاَوّل من السنة 13 من البعثة النبوية المباركة.
الهجرة الكبرى
اجتمع روَساء قريش في دار الندوة، للتشاور فيما حدث أخيراً، من تجمع
القوى والعناصر الاِسلامية وتمركزها في المدينة، فاتّخذوا قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً، وهو القضاء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتخلص منه بقتله، بواسطة اشتراك جميع القبائل في هذا العمل الاِجرامي حيث قال المقترح: فتختاروا من كلّ قبيلة رجلاً قوياً ثمّتسلحوه حساماً عضباً،وليهجموا عليه بالليل ويقطّعوه إرباً إرباً، فيتفرّق دمه في قبائل قريش جميعها، فلا يستطيع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلّها في صاحبهم، فيرضون حينئذٍ بالدية منهم. فاستحسن الجميع هذا الرأي واتّفقوا عليه، ثمّ اختاروا القَتَلَة، على أن يوَدّوا مهمتهم بالليل أثناء الظلام.(1)
إلاّ أن جبرائيل (عليه السلام) نزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبلغه بموَامرة المشركين فقرأ عليه قول اللّه تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجُوكَ وَيمكرونَ وَيَمْكرُ اللّهُ واللّهُ خيْر الماكِرين) .(2)
ثمّ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرر أن ينام شخص في فراشه ليتصوّر المشركون أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) موجود في منزله لم يبرحه، فيرتكز عملهم على محاصرة البيت دون الاهتمام بمراقبة الطرقات في نواحي مكة. فنام الاِمام علي (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاصر المنزل أربعون فرداً من قريش، وخرج النبي ص من الباب دون أن يشعر به أفراد قريش المكلّفون بقتله، حينما قرأ (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة «يس» إلى قوله: (فَهُمْ لا يُبْصِرُون) . وخروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الصورة والكيفية، فسّره البعض بأنّ القوم المحاصرين كانوا نياماً لحظة خروجه، إلاّ أنّ آخرين يرون إنّه خرج من البيت عن طريق الاِعجاز والكرامة دون أن يروه ويحسّوا به.
وقبيل طلوع الفجر عند ساعة الصفر، هجم المتآمرون على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ففوجئوا بوجود الاِمام علي (عليه السلام) يكشف عن نفسه، فغضبوا وندموا على انتظارهم الطويل حتّى الفجر، ولاموا أبا جهل الذي منعهم من دخول البيت فحمّلوه مسوَولية فشل الخطة، ولكنّهم أسرعوا في وضع خطه جديدة لترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر قد أمضيا ليلة الهجرة وليلتين أُخريين في غار ثور الواقع في جنوب مكة، وذلك ليعمّي على قريش فلا يتبعوا أثره، إذ أنّ الطريق إلى المدينة يقع في شمال مكّة.
وبالنسبة إلى مصاحبة أبي بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي مسألة تاريخية غامضة، فيعتقد البعض أنّها كانت بالصدفة، أي أنّه تقابل معه في الطريق فاصطحبه معه إلى غار ثور، بينما يرى آخرون أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهب في نفس الليلة إلى منزل أبي بكر فخرجا في منتصف الليل إلى الغار.(1) في حين أنّفريقاً ثالثاً يذهب إلى أنّ أبا بكر جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرشده الاِمام علي (عليه السلام) إلى مخبأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
أمّا قريش فقد بادرت إلى بثِّ العيون والجواسيس في طرقات مكّة، ومراقبة مداخلها ومخارجها، وبعثت القافلة تقتص أثره ص في كلّمكان وخاصة طريق مكة ـ المدينة، كما عيّنت مائة من الاِبل جائزة لمن يقبض عليه «صلى الله عليه وآله وسلم» ويردّه إليهم، أو لمن يأتي عنه بخبر صحيح.
وقد تمكّن المتتبعون لاَثر قدم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوصول إليه عند باب الغار، إلاّ أنّهم استبعدوا وجودهما فيه، نظراً لنسج العنكبوت وبيض الحمام. فاستمرّت محاولات البحث ثلاثة أيّام بلياليها دون جدوى.
وقد تردّد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال تواجده في الغار: علي (عليه السلام) وهند بن أبي هالة (ابن خديجة) حسب رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر ابن فهيرة راعي أغنام أبي بكر، حسب رواية كثير من الموَرّخين.
والنقطة الهامة في هذه القضية هي مفاداة الاِمام علي (عليه السلام) النبيّ بنفسه. وتعريض حياته لخطر الموت في سبيل الدين والاِسلام وحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهو نموذج رائع من الحبّ الحقيقي للحقّ، وقد مدحه اللّه تعالى في كتابه العظيم قائلاً: (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رءُوفٌ بِالْعِباد) .(1)
وقد دفعت هذه العملية التضحوية الكبرى كبار علماء الاِسلام إلى اعتبارها واحدة من أبرز وأكبر فضائل الاِمام (عليه السلام) وإلى وصفه بالفداء والبذل والاِيثار، واعتبار الآية المذكورة في شأنه من المسلمات قلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.(2)
وقد طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاِمام علي (عليه السلام) أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه، فقال أبو بكر: قد كنت أعددتُ لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب، فدفع إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمنهما.(3)
كما أوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بأن يوَدّي أمانته على أعين الناس، وأمره بترتيب رحلة الفواطم: فاطمة الزهراء(عليها السلام) ، وفاطمة بنت أسد أُمّ الاِمام علي (عليه السلام) وفاطمة بنت الزبير، ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم إلى يثرب، وما يحتاجون له من زاد وراحلة.
وقد هيّأ الاِمام (عليه السلام) أوّلاً ثلاث رواحل ودليلاً أميناً يدعى «أريقط» للترحال إلى المدينة، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع صاحبه متوجهَين إلى يثرب سالكَين الخط الساحلي.
ومن هذه الليلة يبدأ تاريخ المسلمين، حيث بدأوا يقيسون كلّ ما يقع من الحوادث بذلك العام فيحددون تاريخه وزمان حدوثه.
ففي العام الاَوّل للهجرة، حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وتأسّست لهم فيه حكومة مستقلة، وتخلّصوا من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة وبيئة حرة، لا أثر فيها للكبت والاضطهاد، ممّا جعلهم لكلّ ذلك يتخذون هذا العام مبدأ لتاريخهم.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه جعل التاريخ الهجري، وإنّ أي إعراض وتجاهل له واختيار تاريخ آخر مكانه، إعراض عن سنة رسول الاِسلام الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفة لما رسمه للمسلمين. وأمّا ما اشتهر بين الموَرّخين من أنّ الخليفة «عمر بن الخطاب» هو الذي جعل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ للتاريخ باقتراح وتأييد الاِمام علي (عليه السلام) فهو غير صحيح، لاَنّ شيئاً من الاِمعان والتبصّر في مراسلات النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ومكاتباته المدرجة في كتب التاريخ والسيرة والحديث، تثبت أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ، فقد أرّخ رسائله وكتبه إلى أُمراء العرب وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة، بذلك التاريخ الهجري، فهناك كثير من الكتب أُرّخت قبل السنة 16 أو 17 من الهجرة، وقد يكون في السنة الخامسة الهجرية.
كما أنّ أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرّخوا في أيّام حياته، الحوادث الاِسلامية بهجرته، فقالوا: وقع كذا في شهر كذا من الهجرة، فمثلاً قيل: حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان، ستة عشر شهراً أو 17 شهراً أو 18 شهراً.
وفي السنة الخامسة من الهجرة ، أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري.
وصول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة
تمكّن «سراقة بن مالك» من اللحاق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وهما في الطريق إلى المدينة، فدعا عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجمح به فرسُه وطرحه أرضاً، فعرف أنّ ذلك من دعاء النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» عليه، فاعتذر له وطلب منه السماح له بالعودة على ألاّ يخبر أحداً بمكانهما وموقعهما. ففعل، وردّ كلّ من بحث عنهما في الطريق.
أمّا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وصل إلى قباء في 12 من شهر ربيع الاَوّل، يوم الاثنين،ونزل على : «كلثوم بن الهرم» شيخ بني عمرو بن عوف، ولبث في قباء إلى آخر الاسبوع، وبنى فيها مسجداً.(1)
وانتظر لحين قدوم الاِمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة (عليها السلام) حيث كان قد لحق به الكفّار وحاولوا محاربته، إلاّ أنّه (عليه السلام) تمكن من التخلص منهم، فتركه القوم خائفين من غضبه وقوته، فواصل سيره باتّجاه المدينة، حيث وصلها في منتصف شهر ربيع الاَوّل.
ولمّا انحدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثنية الوداع ـ وهي منطقة قريبة من المدينة ـ و حطّ قدمه على تراب يثرب، استقبله الناس رجالاً ونساء، كباراً و صغاراً، استقبالاً عظيماً، ورحّبوا به أعظم ترحيب، مردّدين أناشيد فرحين به: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.
وأصرّ القوم على النزول عند أحدهم، إلاّ أنّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» كان يقول عن ناقته: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة». فانتهت الناقة إلى أرض واسعة كانت ليتيمين من الخزرج يقال لهما: «سهل و سهيل» كانا في حجر أسعد بن زرارة، فبركت على باب «أبي أيّوب خالد بن يزيد الاَنصاري»، فاغتنمت أُمّ أيّوب الفرصة وبادرت إلى رحل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلّته وأدخلته منزلها، وعندما تنازع القوم في أخذه، قال الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» : «أين الرحل؟» فقالوا: أدخلته أُمّ أيّوب في بيتها، فقال «صلى الله عليه وآله وسلم» : «المرء مع رحله».
وقد اتّفق كُتّاب السيرة على أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل المدينة يوم الجمعة، حيث صلّى الجمعة في بني سالم بن عوف، وهي أوّل جمعة جمعها (صلى الله عليه وآله وسلم) في الاِسلام، وخطب أوّل خطبة في المدينة كان لها الاَثر العميق في قلوب أهلها ونفوسهم.